سورة الكهف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


السد الحاجز والحائل بين الشيئين، ويقال بالضم وبالفتح. الردم: السد. وقيل: الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردّم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة. وقيل: سد الخلل، قال عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم ***
أي خلل في المعاني فيسد ردماً. الزبرة: القطعة وأصله الاجتماع، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر، وزبرت الكتاب جمعت حروفه. الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري، ويقال: صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه. قال بعض اللغويين: وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير. وقال أبو عبيدة: الصدف كل بناء عظيم مرتفع. القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين. وقيل: الحديد المذاب. وقيل: الرصاص المذاب. النقب مصدر نقب أي حفر وقطع. الغطاء معروف وجمعه أغطية، وهو من غطى إذا ستر.
{ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً ءاتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال ءاتوني أفرغ عليه قطراً فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا}.
{سبباً} أي طريقاً أو مسيراً موصلاً إلى الشمال فإن {السدّين} هناك. قال وهب: السدّان جبلان منيفان في السماء من ورائهما ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان. وذكر الهروي أنهما جبلان من وراء بلاد الترك. وقيل: هما جبلان من جهة الشمال لينان أملسان، يزلق عليهما كل شيء، وسمي الجبلان سدّين لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج. وقرأ مجاهد وعكرمة والنخعي وحفص وابن كثير وأبو عمرو {بين السدين} بفتح السين. وقرأ باقي السبعة بضمها. قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد. وقال الخليل وسيبويه: بالضم الاسم وبالفتح المصدر. وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلق الله لم يشارك فيه أحد فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فبالفتح.
وقال ابن أبي إسحاق ما رأت عيناك فبالضم، وما لا يرى فبالفتح. وانتصب {بين} على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في {لقد تقطع بينكم} وانجر بالإضافة في {هذا فراق بيني وبينك} و{بين} من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها، نحو قولهم همزة بين بين.
{من دونهما} من دون السدين و{قوماً} يعني من البشر. وقال الزمخشري: هم الترك انتهى. وأبعد من ذهب إلى أنهم جان. قال الزمخشري: وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق، ونفى مقارنة فقههم {قولاً} وتضمن نفي فقههم. وقال الزمخشري: لا يكادون يفهمونه إلاّ بجهد ومشقة كأنه فهم من نفى يكاد أنه يقع منهم الفهم بعد عسر، وهو قول لبعضهم إن نفيها إثبات وإثباتها نفي، وليس بالمختار.
وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي {يفقهون} بضم الياء وكسر القاف أي يفهمون السامع كلامهم، ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة. والضمير في {قالوا} عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عنده ما ينفعهم لكونه ملك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله، و{يأجوج ومأجوج} من ولد آدم قبيلتان. وقيل: هما من ولد يافث بن نوح. وقيل: {يأجوج} من الترك {ومأجوج} من الجيل والديلم. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة منهم خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. وقال قتادة والسدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وهما ممنوعا الصرف، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين.
وقال الأخفش: إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج من يججت، ومأجوج من مججت. وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج، ويأجوج فاعول من يج. وقال أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا: الظاهر أنه عربي وأصله الهمز، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجّة وهو الاختلاف كما قال تعالى {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} أو من الأج وهو سرعة العدو، قال تعالى {وهم من كل حدب ينسلون} وقال الشاعر:
يؤج كما أج الظليم المنفر ***
أو من الأجة وهو شدة الحرّ، أو من أجّ الماء يئج أجوجاً إذا كان ملحاً مراً انتهى. وقرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية بالهمز وفي {يأجوج ومأجوج} وكذا في الأنبياء وفي لغة بني أسد ذكره الفراء. قيل: ولا وجه له إلاّ اللغة الغربية المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم. وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة وهي لغة كل العرب غير بني أسد.
وقرأ العجاج ورؤبة ابنه: آجوج بهمزة بدل الياء. وإفسادهم الظاهر تحقق الإفساد منهم لا توقعه لأنها شكت من ضررنا لها. وقال سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقيل: هو الظلم والقتل ووجوه الإفساد المعلوم من البشر. وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلاّ أكلوه، ولا يابساً إلاّ احتملوه، وروي أنه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلٌّ قد حمل السلاح.
{فهل نجعل لك خرجاً} استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوا على جهة حسن الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى للخضر {هل أتبعك على أن تعلمني} وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومن السبعة حمزة والكسائي خراجاً بألف هنا، وفي حرفي قد أفلح وسكن ابن عامر الراء فيها. وقرأ باقي السبعة {خرجاً} فيهما بسكون الراء فخراج بالألف والخرج والخراج بمعنى واحد كالنول والنوال، والمعنى جعلا نخرجه من أموالنا، وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج. وقيل: الخرج المصدر أطلق على الخراج، والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الأعرابي: الخرج على الرؤوس يقال: أدّ خرج رأسك، والخراج على الأرض. وقال ثعلب: الخرج أخص والخراج أعم. وقيل: الخرج المال يخرج مرة والخراج المجبي المتكرر عرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد. وقال ابن عباس {خرجاً} أجراً.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر {سداً} بضم السين وابن محيصن وحميد والزهري والأعمش وطلحة ويعقوب في رواية وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وباقي السبعة بفتحها {قال ما مكني فيه ربي خير} أي ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم {فأعينوني بقوة} أي بما أتقوّى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء؛ قاله مقاتل وبالآلات؛ قاله الكلبي {ردماً} حاجزاً حصيناً موثقاً. وقرأ ابن كثير وحميد: ما مكنني بنونين متحركتين، وباقي السبعة بإدغام نون مكن في نون الوقاية.
ثم فسر الإعانة بالقوة فقال {آتوني زبر الحديد} أي أعطوني. قال ابن عطية: إنما هو استدعاء مناولة لا استدعاء عطية وهبة لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخراج، فلم يبق إلاّ استدعاء المناولة انتهى. وقرأ الجمهور {آتوني}. وقرأ أبو بكر عن عاصم ائتوني أي جيئوني. وانتصب {زبر} بإيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر {الحديد}. وقرأ الجمهور {زبر} بفتح الباء والحسن بضمها، وفي الكلام حذف تقديره فأتوه أو فآتوه بها فأمر برصّ بعضها فوق بعض {حتى إذا ساوى}.
وقرأ الجمهور {ساوى} وقتادة سوّى، وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سُووي مبنياً للمفعول. وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين من حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس مذاب، ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً.
وقيل: طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون. وفي الحديث أن رجلاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فقال: «كيف رأيته»؟ فقال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: «قد رأيته». وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن {الصدفين} بضم الصاد والدال، وأبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن كذلك إلاّ أنه سكن الدال وباقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد وطلحة وابن أبي ليلى وجماعة عن يعقوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وابن سعدان بفتحهما، وابن جندب بالفتح وإسكان الدال، ورويت عن قتادة. وقرأ الماجشون بالفتح وضم الدال. وقرأ قتادة وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال {حتى إذا جعله ناراً} في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى. وقرأ الجمهور قال {آتوني} أي أعطوني. وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه قال: ائتوني أي جيئوني و{قطراً} منصوب بأفرغ على إعمال الثاني، ومفعول {آتوني} محذوف لدلالة الثاني عليه.
{فما اسطاعوا} أي يأجوج ومأجوج {أن يظهروه} أي يصلوا عليه لبعده وارتفاعه وامّلاسه، ولا أن ينقبوه لصلابته وثخانته فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرهم من الأمم إلاّ بأحد هذين: إما ارتقاء وإما نقب وقد سلب قدرتهم على ذلك.
وقرأ الجمهور {فما اسطاعوا} بحذف التاء تخفيفاً لقربها من الطاء. وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حده. وقال أبو عليّ هي غير جائزة. وقرأ الأعشى عن أبي بكر: فما اصطاعوا بالإبدال من السين صاداً لأجل الطاء. وقرأ الأعمش: فما استطاعوا بالتاء من غير حذف.
{قال هذا رحمة من ربي} أي قال ذو القرنين والإشارة بهذا قال ابن عطية إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به. وقال الزمخشري: إشارة إلى السد أي {هذا} السد نعمة من الله و{رحمة} على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته. قيل: وفي الكلام حذف وتقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم {قال هذا رحمة من ربي}.
وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي بتأنيث اسم الإشارة. والوعد يحتمل أن يراد به يوم القيامة، وأن يراد به وقت خروج يأجوج ومأجوج. وقال الزمخشري: فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي مدكوكاً منبسطاً مستوياً بالأرض، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك انتهى. وقرأ الكوفيون: {دكاء} بالمدّ ممنوع الصرف وباقي السبعة دكاً منونة مصدر دككته، والظاهر أن {جعله} بمعنى صيره فدك مفعول ثان.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكاً على الحال انتهى. وهذا بعيد جداً لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى، ووعد بمعنى موعود لا مصدر. والمعنى {فإذا جاء} موعود {ربي} لا يريد المصدر لأن المصدر قد سبق و{تركنا} هذا الضمير لله تعالى والأظهر أن الضمير في {بعضهم} عائد على يأجوج ومأجوج، والجملة المحذوفة بعد إذ المعوض منها التنوين مقدرة بإذ جاء الوعد وهو خروجهم وانتشارهم في الأرض أو مقدرة بإذ حجز السد بينهم وبين القوم الذين كانوا يفسدون عندهم وهم متعجبون من السد فماج بعضهم في بعض.
وقيل: الضمير في {بعضهم} يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد الله وهو يوم القيامة ويقويه قوله {ونفخ في الصور} فيظهر أن ذلك هو يوم القيامة، وكذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الأنعام. و{جمعاً} مصدر كموعد {وعرضنا} أي أبرزنا {جهنم يومئذ} أي يوم إذ جمعناهم. وقيل: اللام بمعنى على كقوله:
فخر صريعاً لليدين وللفم *** وأبعد من ذهب إلى أنه مقلوب
والتقدير وعرضنا الكافرين على جهنم {عرضاً} وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين. و{الذين كانت أعينهم} صفة ذم في {غطاءٍ} استعار الغطاء لأعينهم، والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر إليها فيعتبر بها، واذكر بالتعظيم وهذا على حذف مضاف أي عن آيات {ذكري}. وقيل {عن ذكري} عن القرآن وتأمل معانيه، ويكون المراد بالأعين هنا البصائر لا الجوارح لأن الجوارح لا نسبة بينها وبين الذكر {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة، وهم وإن كانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وكان هؤلاء أصمت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع {أفحسب الذين كفروا} هم من عبد الملائكة وعزيراً والمسيح واتخذوهم أولياء من دون الله وهم بعض العرب واليهود والنصارى، وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ، والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شيء، ولا يجدون عندهم منتفعاً ويظهر أن في الكلام حذفاً والتقدير {أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء} فيجدي ذلك وينتفعون بذلك الاتخاذ. وقيل: العباد هنا الشياطين. روي عن ابن عباس وقال مقاتل: الأصنام لأنها خلقه وملكه، والأظهر تفسير العباد بما قلناه لإضافتهم إليه والأكثر أن تكون الإضافة في مثل هذا اللفظ إضافة تشريف.
وحسب هنا بمعنى ظن وبه قرأ عبد الله أفظن. وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما وابن محيصن وأبو حيوة والشافعي ومسعود بن صاح {أفحسب} بإسكان السين وضم الباء مضافاً إلى {الذين} أي أفكافيهم ومحسبهم ومنتهى عرضهم، والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا.
وقال أبو الفضل الرازي قال سهل: يعني أبا حاتم معناه: أفحسبهم وحظهم إلاّ أن {أفحسب} أبلغ في الذم لأنه جعله غاية مرادهم انتهى. وارتفع حسب على الابتداء والخبر {أن يتخذوا}. وقال الزمخشري: أو على الفعل والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك: أقائم الزيدان وهي قراءة محكمة جيدة انتهى. والذي يظهر أن هذا الإعراب لا يجوز لأن حسباً ليس باسم فاعل فتعمل، ولا يلزم من تفسير شيء بشيء أن تجري عليه جميع أحكامه، وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وأن الوجه فيها الرفع. ثم قال: وذلك مررت برجل خير منه أبوه، ومررت برجل سواء عليه الخير والشر، ومررت برجل أب له صاحبه، ومررت برجل حسبك من رجل، ومررت برجل أيما رجل هو انتهى. ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة.
{إنّا أعتدنا} أي أعددنا ويسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضاً ما يقدم للضيف ويهيأ له وللقادم من الطعام، والنزل هنا يحتمل التفسيرين وكونه موضع النزول قاله الزجاج هنا، وما هيئ من الطعام للنزيل قول القتبي. وقيل: جمع نازل ونصبه على الحال نحو شارف وشرف، فإن كان ما تقدم للضيف وللقادم فيكون كقوله: {فبشرهم بعذاب أليم} وكقول الشاعر:
تحية بينهم ضرب وجيع ***
وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه {نزلاً} بسكون الزاي.


أي {قل} يا محمد للكافرين هل نخبركم الآية فإذا طلبوا ذلك فقل لهم {أولئك الذين كفروا} والأخسرون أعمالاً عن عليّ هم الرهبان كقوله {عاملة ناصبة} وعن مجاهد: هم أهل الكتاب. وقيل: هم الصابئون. وسأل ابن الكواء علياً عنهم فقال: منهم أهل حروراء. وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل على الحصر إذ الأخسرون أعمالاً هم كل من دان بدين غير الإسلام، أو راءى بعمله، أو أقام على بدعة تؤول به إلى الكفر والأخسر من أتعب نفسه فأدى تعبه به إلى النار. وانتصب {أعمالاً} على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد و{الذين} يصح رفعه على أنه خبر مبتدإِ محذوف، أي هم {الذين} وكأنه جواب عن سؤال، ويجوز نصبه على الذمّ وخبره على الوصف أو البدل {ضل سعيهم} أي هلك وبطل وذهب و{يحسبون} و{يحسنون} من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فرقاً بين الكلمتين. ومنه قول أبي عبادة البحتري:
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى *** ليعجز والمعتز بالله طالبه
ومن غريب هذا النوع من التجنيس. قال الشاعر:
سقينني ربي وغنينني *** بحت بحبي حين بنّ الخرد
صحف بقوله سقيتني ربي وغنيتني بحب يحيى حين بن الجرد.
وقرأ ابن عباس وأبو السمال {فحبطت} بفتح الباء والجمهور بكسرها. وقرأ الجمهور {فلا نقيم} بالنون {وزناً} بالنصب ومجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله {بآيات ربهم} وعن عبيد أيضاً يقوم بفتح الياء كأنه جعل قام متعدياً. وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم: فلا يقوم مضارع قام وزن مرفوع به. واحتمل قوله {فلا نقيم} إلاّ به أنهم لا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار. واحتمل أن يريد المجاز كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ.
وفي الحديث: «يؤتي بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة» ثم قرأ {فلا نقيم} الآية. وفي الحديث أيضاً: «يأتي ناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً». {ذلك جزاؤهم} مبتدأ وخبر و{جهنم} بدل و{ذلك} إشارة إلى ترك إقامة الوزن، ويجوز أن يشار بذلك وإن كان مفرداً إلى الجمع فيكون بمعنى أولئك ويكون {جزاؤهم جهنم} مبتدأ وخبراً. وقال أبو البقاء: {ذلك} أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون {ذلك} مبتدأ و{جزاؤهم} مبتدأ ثان و{جهنم} خبره. والجملة خبر الأول والعائد محذوف أي جزاؤه انتهى. ويحتاج هذا التوجيه إلى نظر قال: ويجوز أن يكون {ذلك} مبتدأ و{جزاؤهم} بدل أو عطف بيان و{جهنم} الخبر. ويجوز أن يكون {جهنم} بدلاً من جزاء أو خبر لابتداء محذوف، أي هو جهنم و{بما كفروا} خبر ذلك، ولا يجوز أن تتعلق الباء بجزاؤهم للفصل بينهما و{اتخذوا} يجوز أن يكون معطوفاً على {كفروا} وأن يكون مستأنفاً انتهى. والآيات هي المعجزات الظاهرة على أيدي الأنبياء والصحف الإلهية المنزلة عليهم.


الفردوس قال الفراء: البستان الذي فيه الكرم. وقال ثعلب: كل بستان يحوّط عليه فهو فردوس.
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}.
لما ذكر تعالى ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين وفي الصحيح {جنات الفردوس} أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما. وفي حديث عبادة {الفردوس} أعلاها يعني أعلا الجنة. قال قتادة وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة. وقال أبو هريرة جبل تتفجر منه أنهار الجنة. وفي حديث أبي أمامة {الفردوس} سرة الجنة. وقال مجاهد {الفردوس} البستان بالرومية. وقال كعب والضحاك {جنات الفردوس} الأعناب. وقال عبيد الله بن الحارث بن كعب إنه جنات الكروم والأعناب خاصة من الثمار. وقال المبرد: {الفردوس} فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب. وحكى الزجّاج أنه الأودية التي تنبت ضروباً من النبت، وهل هو عربي أو أعجمي قولان؟ وإذا قلنا أعجمي فهل هو فارسي أو رومي أو سرياني؟ أقوال. وقال حسان:
وإن ثواب الله كل موحد *** جنان من الفردوس فيها يخلد
قيل: ولم يسمع بالفردوس في كلام العرب إلاّ في هذا البيت بيت حسان، وهذا لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة *** فيها الفراديس ثم الثوم والبصل
الفراديس جمع فردوس. والظاهر أن معنى {جنات الفردوس} بساتين حول الفردوس ولذلك أضاف الجنات إليه. ويقال: كرم مفردس أي معرش، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوساً لاجتماع نخلها وتعريشها على أرضها. وفي دمشق باب الفراديس يخرج منه إلى البساتين. و{نزلاً} يحتمل من التأويل ما احتمل قوله {نزلاً} المتقدم. ومعنى {حولاً} أي محولاً إلى غيرها. قال ابن عيسى: هو مصدر كالعوج والصغر. قال الزمخشري: يقال حال عن مكانه حولاً كقوله:
عادني حبها عوداً ***
يعني لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه، ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود انتهى. وقال ابن عطية: والحول بمعنى التحول. قال مجاهد متحولاً. وقال الشاعر:
لكل دولة أجل *** ثم يتاح لها حول
وكأنه اسم جمع وكان واحده حوالة وفي هذا نظر. وقال الزجّاج عن قوم: هي بمعنى الحيلة في التنقل وهذا ضعيف متكلف.
{قل لو كان البحر}. قيل سبب نزولها أن اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها، وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم وأنت مقصر قد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ فنزلت معلمة باتساع معلومات الله وأنها غير متناهية وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكر، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه وهو قوله {قل لو كان البحر}. وقيل قال حيي بن أخطب في كتابكم {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} ثم تقروؤن {وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً} فنزلت يعني إن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله {قل لو كان البحر} أي ماء البحر {مداداً} وهو ما يمد به الدواة من الحبر، وما يمد به السراج من السليط. ويقال: السماء مداد الأرض {لكلمات ربي} أي معد الكتب كلمات ربي وهو علمه وحكمته، وكتب بذلك المداد {لنفد البحر} أي فني ماؤه الذي هو المداد قبل أن تنفد الكلمات لأن كلماته تعالى لا يمكن نفادها لأنها لا تتناهى والبحر ينفد لأنه متناه ضرورة، وليس ببدع أن أجهل شيئاً من معلوماته و{إنما أنا بشر مثلكم} لم أعلم إلاّ ما أُوحي إلي به وأعلمت.
وقرأ الجمهور {مداداً لكلمات ربي}. وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش ومجاهد والأعرج والحسن والمنقري عن أبي عمرو مدداً لكلمات ربي. وقرأ الجمهور {تنفد} بالتاء من فوق. وقرأ حمزة والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى بالياء. وقرأ السلمي {أن تنفد} بالتشديد على تفعل على المضي، وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع من نفد مشدداً نحو كسرته فتكسر. وفي قراءة الجماعة مطاوع لأنفد وجواب لو محذوف لدلالة المعنى عليه تقديره لنفد. وقرأ الجمهور بمثله مدداً بفتح الميم والدال بغير ألف، والأعرج بكسر الميم. وأنتصب {مدداً} على التمييز عن مثل كقوله:
فإن الهوى يكفيكه مثله صبراً ***
وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن محيصن وحميد والحسن في رواية، وأبو عمرو في رواية وحفص في رواية بمثله مداداً بألف بين الدالين وكسر الميم. قال أبو الفضل الرازي: ويجوز أن يكون نصبه على المصدر بمعنى ولو أمددناه بمثله إمداداً ثم ناب المدد مناب الإمداد مثل أنبتكم نباتاً.
وفي قوله {بشر مثلكم} إعلام بالبشرية والمماثلة في ذلك لا أدّعي إني ملك {يوحى إليّ} أي عليّ إنما هو مستند إلى وحي ربي، ونبه على الوحدانية لأنهم كانوا كفاراً بعبادة الأصنام، ثم حض على ما فيه النجاة و{يرجو} بمعنى يطمع و{لقاء ربه} على تقدير محذوف أي حسن لقاء ربه. وقيل {يرجو} أي يخاف سوء {لقاء ربه} أي لقاء جزاء ربه، وحمل الرجاء على بابه أجود لبسط النفس إلى إحسان الله تعالى.
ونهى عن الإشراك بعبادة الله تعالى. وقال ابن جبير: لا يرائي في عمله فلا يبتغي إلاّ وجه ربه خالصاً لا يخلط به غيره. قيل نزلت في جندب بن ز هير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال: «إن الله لا يقبل ما شورك فيه» وروي أنه قال: «لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وذلك إذا قصد أن يقتدى به. وقال معاوية بن أبي سفيان: هذه آخر آية نزلت من القرآن.
وقرأ الجمهور {ولا يشرك} بياء الغائب كالأمر في قوله {فليعمل}. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه: ولا تشرك بالتاء خطاباً للسامع والتفاتاً من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، وهو المأمور بالعمل الصالح ثم عاد إلى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله بربه، ولم يأت التركيب بربك إيذاناً بأن الضميرين لمدلول واحد وهو من في قوله {فمن كان يرجو}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7